تأمركة الشرق الأوسط- من منظور جغرافي إلى استراتيجية جيوسياسية

المؤلف: أحمد الدبش09.19.2025
تأمركة الشرق الأوسط- من منظور جغرافي إلى استراتيجية جيوسياسية

لا يوجد مكان آخر يضاهي الشرق الأوسط أهمية في الحفاظ على التوازن الدقيق بين مختلف عناصر سياستنا الخارجية.. فهو يحتضن مصالح اقتصادية وسياسية وحتى ذات طبيعة روحية..

بواسطة ألكسندر هيغ

أمْرَكّة الشرق

مصطلح "الشرق الأوسط" صُكَّ لأول مرة في عام 1902 على يد الأميرال الأميركي البارز ألفريد ثاير ماهان (Alfred Thayer Mahan) (1804- 1914). قبل ذلك التاريخ، كان كل من الأميركيين والأوروبيين يشيرون إلى هذه المنطقة الشاسعة ببساطة باسم "الشرق"، وهو مصطلح فضفاض وغير محدد بدقة، يشمل الأراضي الممتدة من المغرب ومصر، ثم يلتوي عبر شبه الجزيرة العربية وصولًا إلى بلاد الشام، قبل أن يستقر أخيرًا في تركيا.

لم يكن هذا التقسيم الجغرافي دائمًا دقيقًا تمامًا؛ فالدار البيضاء، على سبيل المثال، تقع إلى الغرب من مدن أوروبية مثل مدريد، ومارسيليا، وحتى روما. لذا، يمكننا القول بثقة أن مصطلح "الشرق" كان بالأحرى وصفًا لإقليم تتشابك فيه حضارة فريدة، وأنظمة حكم متميزة، وهياكل اجتماعية راسخة، وأنماط معمارية متفردة، وأساليب ملبس تعكس هوية خاصة.

كان سكان هذه البقعة من العالم معروفين لدى الغربيين بتسميات متعددة ومتنوعة: العرب، وأهل الشام، والجزائريون، والأمازيغ، والأتراك. وغالبًا ما كان يسود اعتقاد بأنهم معادون للغرب، وأنهم يتحدثون بلغة ذات إيقاع غريب وغير مألوف للأذن الأميركية.

ولكن ما كان يميز الشرق أكثر من أي شيء آخر، سواء كانت مواصفاته السياسية، أو الفنية، أو اللغوية، هو ذلك الدين الذي يحمل اسم الإسلام. ففي القرن الثامن عشر، كان الأميركيون ينظرون إلى أتباع هذه العقيدة باعتبارهم "الآخر"، المختلف اختلافًا جذريًا. ومن وجهة نظرهم، كانوا يمثلون كتلة غير متجانسة، تنحدر من حضارة عظيمة شهدت أفولًا منذ زمن بعيد، بالإضافة إلى أنهم بدائيون، ويتسمون بالعنف والضراوة.

المنظّر البحري الأميركي الفذّ، ماهان، قدم رؤيته الإستراتيجية المتعمقة حول الأهمية الجوهرية لهذه المنطقة، التي زارها في عامي 1867 و1894، وذلك في كتابه الذي يحمل عنوان "مشكلة آسيا" والذي نُشر عام 1900.

حدد ماهان منطقة جغرافية محددة تقع بين خطي عرض 30 و40 شمالاً، وتمتد من حوض البحر الأبيض المتوسط غربًا إلى كوريا شرقًا، وأطلق عليها اسم "وسط آسيا". وأشار بتبصر إلى أن هذه المنطقة تضم أراضي ذات أهمية إستراتيجية قصوى، وستظل محل تنافس دولي محموم ومستمر في المستقبل المنظور.

قام ماهان بتقسيم هذه المنطقة إلى شطرين رئيسيين: النصف الشرقي، الذي ينعم بوفرة الموارد الطبيعية، والنصف الغربي، الذي يحتضن أهم خطوط الاتصال ووسائل النقل، مثل قناة السويس، والبحر الأحمر، والخليج العربي، بالإضافة إلى الإمكانات الهائلة لإنشاء خطوط حديدية برية. واعتبر ماهان أن هذه الممرات الحيوية ضرورية للغاية للوصول إلى الشرق، وتعزيز النفوذ الدولي.

في مقال نشر في عام 1902 في الدورية المرموقة ناشونال ريفيو (National Review)، قام ماهان بمراجعة شاملة وتطوير دقيق لأفكاره حول المنطقة التي كان قد أطلق عليها سابقًا اسم "وسط آسيا". وتناول المقال، الذي حمل عنوانًا لافتًا هو "الخليج الفارسي في السياسة الدولية"، الأهمية الإستراتيجية القصوى للخليج العربي، باعتباره نقطة محورية في شبكة خطوط الاتصال المستقبلية بين الشرق والغرب.

أشار ماهان ببراعة إلى أن الخليج يمكن أن يصبح المحطة النهائية لخط سكة حديد مستقبلي عابر للقارات، ليكون بمثابة بديل محتمل للطريق المائي الذي يمر عبر قناة السويس والبحر الأحمر.

في هذا المقال المحوري، قدم ماهان مصطلحًا جديدًا تمامًا للمنطقة، واصفًا إياها بـ"الشرق الأوسط". وأوضح أن هذا المصطلح لم يكن مألوفًا لديه من قبل، لكنه اعتمده عن قناعة كجزء لا يتجزأ من رؤيته الإستراتيجية الشاملة. واستندت هذه الصياغة الجديدة إلى المفاهيم الغربية التي ركزت بشكل خاص على الأهمية البالغة للهند والخليج العربي، باعتبارهما محورين إستراتيجيين حيويين ضمن شبكة المصالح الدولية المتشابكة.

شرق أوسط أم شرق أدنى!

في مقاله التحليلي المتميز، قدم ماهان رؤية استشرافية ثاقبة لأهمية "الشرق الأوسط" كمنطقة إستراتيجية حاسمة في الصراعات العالمية المستقبلية. توقع ماهان أن المنطقة ستكون بمثابة محور التنافس الشديد بين بريطانيا العظمى، التي ستتعاون معها الولايات المتحدة في الحفاظ على مصالحها المشتركة، وبين القوى البحرية الصاعدة بقوة مثل ألمانيا الإمبريالية، إضافة إلى التهديد البري المتزايد الذي تمثله روسيا.

اعتبر ماهان أن إدراك الأهمية القصوى لهذه المنطقة يجب أن يكون جزءًا لا يتجزأ من إستراتيجية أميركية شاملة ومتكاملة، تؤهلها للعب دور أكثر تأثيرًا على المسرح العالمي المضطرب.

بعد أن سلط ألفريد ثاير ماهان الضوء على الأهمية المتزايدة للشرق الأوسط، سارعت وزارة الخارجية الأميركية إلى إعادة تصور المنطقة برؤية جديدة تمامًا، واعتبارها منطقة حيوية للمصالح الاقتصادية والإستراتيجية للولايات المتحدة.

في عام 1909، أنشأت الوزارة قسمًا خاصًا متخصصًا في شؤون الشرق الأدنى، والذي شمل في ذلك الوقت مصالح الولايات المتحدة المتشعبة في الإمبراطوريات العثمانية، والروسية، والألمانية، والنمساوية- الهنغارية، بالإضافة إلى مناطق أخرى شاسعة مثل إيطاليا، واليونان، والبلقان، والحبشة، وفارس، ومصر، والمستعمرات البريطانية والفرنسية المترامية الأطراف في حوض البحر الأبيض المتوسط.

بيد أن سلسلة من عمليات إعادة التنظيم الهيكلي على مدى السنوات الخمس والثلاثين التالية أثمرت عن إنشاء مكتب لشؤون الشرق الأدنى وأفريقيا في عام 1944، ثم تم تقسيمه بعد ذلك إلى ثلاثة أقسام متخصصة:

  1. شؤون الشرق الأدنى: وشمل تركيا، والعراق، وفلسطين، وشرق الأردن، وسوريا، ولبنان، ومصر، والمملكة العربية السعودية، ودول شبه الجزيرة العربية الأخرى، إلى جانب اليونان.
  2. شؤون الشرق الأوسط: وشمل أفغانستان، وبورما، وسيلان (سريلانكا)، والهند، وإيران.
  3. شؤون أفريقيا: وركز على بقية أجزاء القارة الأفريقية الشاسعة.

مع تعمق انخراط الولايات المتحدة في أتون الحرب العالمية الثانية، اعتمدت بشكل كبير على «مركز الإمدادات» البريطاني الذي كان يقع في القاهرة، لتسهيل عمليات الإمداد والتموين المعقدة في شمال أفريقيا، وجنوب أوروبا، وشبه الجزيرة العربية، وبقية أنحاء ما كان يعرف سابقًا بالشرق الأدنى.

أدى هذا التعاون الوثيق إلى ترسيخ استخدام مصطلحي «الشرق الأدنى»، و«الشرق الأوسط» بشكل متبادل في الأوساط السياسية والشعبية على حد سواء.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أصبح مصطلح «الشرق الأوسط» هو المصطلح السائد والأكثر شيوعًا (وفي الولايات المتحدة الأميركية، يستعمل أيضًا التعبير الصحفي المختصر له: Mideast)؛ وهو يتمتع الآن برنين أكثر عصرية، بينما أصبح مصطلح «الشرق الأدنى» يبدو وكأنه موضة قديمة عفا عليها الزمن، تمامًا مثلما تقادم مصطلحا «الليفانت»، و«الشرق»، في فترة سابقة.

لا شك أن تسمية هذا الجزء الحيوي من سطح الأرض بالشرق الأوسط، لا يقل تعسفًا ولا منطقية عن تصويره كجزء من الشرق. فهو يضم مساحة شاسعة وهائلة ذات تنوع بيئي وجغرافي واسع النطاق، من جبال شاهقة تحاصرها الثلوج البيضاء إلى صحراوات مترامية الأطراف قاحلة وجدباء إلى وديان أنهار خصبة وسهول ساحلية تروى بمياه الأمطار الغزيرة، ويضم مدنًا بالغة الضخامة والاتساع إلى جانب عدد وافر من البنادر والقرى المتناثرة، وتسكنه شعوب مختلفة ومتنوعة لها لغات وثقافات وطرق حياة متميزة وفريدة.

ومعظم سكان هذا الإقليم مسلمون (ولكن من مذاهب مختلفة ومتنوعة)، ولكنه يضم كذلك أعدادًا كبيرة من غير المسلمين، ويعيش معظم المسلمين خارجه، في أرض ليست شرق أوسطية على الإطلاق، مثل: إندونيسيا، والهند، وباكستان، وبنغلاديش، وبالتالي لا يصح الدين كسمة أساسية لتعريف الإقليم وتحديده. وفي نفس الوقت تكشف تسمية هذا الإقليم بـ«الشرق الأوسط» بداهة عن منظور أوروبي المركز: فهو «متوسط»، و«شرقي»، فقط من حيث علاقته بأوروبا الغربية.

هكذا، تطور مصطلح «الشرق الأوسط» بشكل ملحوظ وملموس من كونه مجرد وصف جغرافي بسيط ومباشر إلى مفهوم سياسي وإستراتيجي معقد يعبر عن مصالح القوى الغربية المتنفذة، وعلى رأسها الولايات المتحدة.

وعلى الرغم من التحولات الدلالية العميقة التي مرَّ بها، فإنه لا يزال يعكس رؤية غربية بحتة تضع المنطقة في إطار يخدم الأجندات الدولية بدلًا من أن يعبر بصدق وأمانة عن هويتها الحقيقية. ومع ذلك، يظل «الشرق الأوسط»، بتنوعه الثقافي والجغرافي الفريد، محورًا للتنافس العالمي المحموم، مما يجعل المصطلح أداة أساسية لفهم الديناميات الجيوسياسية المعقدة والحالية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة